Quantcast
Channel: أحمد سعيد
Viewing all articles
Browse latest Browse all 11

الثورة الملعونة

$
0
0

 

يداري وجهه عن الشمس، والمارة، وواجهات المباني، يترنح يميناً ويساراً، يتعثر في أحجار الطريق، يلعن يومه، يلعن المدينة، يلعن نفسه. الثورة بركانٌ داخله، تمحو كل شيءٍ جميل، تزلزل الأرض، وتهز الجبال، تغلف الأنهار بطبقة جليد سميكة.

منذ عام خرج يبحث عن حريته، يروح ويجيء في الميدان، يصرخ في وجه الجنود: الشعب يريد إسقاط النظام. قنابل الغاز تخنقه، يبكي بلا حزنٍ، يحاول اللجوء لمكانٍ آمن، فلا يجد غير ممرات المترو، الحوائط تتحرك من حوله، تضيق الممرات عليه، يراها في آخر الممر، تظهر له من بين السواد والدخان، يفرك عينيه مستوضحاً صورتها، يشعر بألم شديد بحدقتيه، ينادي عليها: حبيبتي لما رحلتي، لما ذهبتِ في العام الجديد، من أين جلبتي تلك القسوة؟! يسقط مغشياً عليه على درجات السلم، تتسلل رائحة الخل إلى أنفه، يفتح عينيه بصعوبة، يدور ببصره في أرجاء المكان ليكتشفه، أجساد الشباب ملقاة على الأرض بذوراً تنتظر الماء لتقف مارداً في وجه السواد، فتاة تستند على الجدار بجواره، تحمل زجاجة خل في يدها، تنظر إليه: أنت أفضل الآن؟ ينظر لوجهها فلا يتبينه في الظلام، يشكرها ويقوم مستنداً على الجدار، صوت ارتطام أحجار المتظاهرين بأسوار الميدان الحديدية طائرٌ جارح ينقض على فريسته فينتزع قلبها، الرصاصات تُزرع في القلوب فتحصد الأرواح، يرى صديقه من بعيد، ينادي عليه، يبكي بحرقة: هؤلاء ليسوا مصريين. يأخذه صديقه بين ذراعيه، ويهمس في أذنه: لا تحزن يا صديقي، الحق معنا. المدرعات تخترق الميدان، تدهس كل من يقابلها، يهرول هو وصديقه، يصيح: يا أولاد الكلب. الليل يدهس النهار، تنتحر الشمس خجلاً من دماء القتلى.

 يزحف الشباب نحو الجند، يقابلون القوة الغاشمة بنور قلوبهم، وبشموس أرواحهم، تخترق كتفه رصاصة، يسقط أرضاً، تتداخل الصور من حوله، الطيور تحوم مذعورة، النيل يخترق الميدان، تثور أسماكه، الأرواح المفارقة للأجساد تنمو أشجاراً على سطح مياهه، القمر يهبط مقبّلاً أغصانها وأوراقها، يتحامل على نفسه، يرى أمه تمسك به: لن تذهب، ألا ترى ما يحدث؟! ينظر بعينيها مبتسماً: سأذهب يا أمي، لا تخافي، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

يحمله صديقه على كتفه، يضعه بجوار إحدى البنايات البعيدة نسبياً عن الأحداث، يرى على رأسه ضوء ليزر، يحاول أن يحذره، لكنه يسقط بجواره وقد اخترقت رأسه رصاصة ظالمة. تتحجر الدموع في عينيه، قلبه قطعة جليد تبكي، يحاول أن ينطق، أن ينادي عليه، مقيدٌ بخيوط عنكبوتية لا سبيل للفكاك منها، ينام بجواره، فيصافح روحه، يأخذ منه تفاحةً يقضم منها قضمةً، وتختفي من يده.

الجمل يخترق أرض الوطن،

يأكل عشبه،

يشرب ماءه،

يدهس زهرة ضعيفة في الميدان،

فتأخذ قوتها من شعاع الوطن،

ومن دمع أمٍ انتظرت وليدها ليتسلق جدار الحلم،

فصعد جدران السماء.

سقط الجمل، وسقط العسكر

سقطت وجوه فخارية..

وبقيت الزهرة.

 الميدان مدينة فاضلة، من يعبر نقاط التفتيش يلقي شخصيته بالخارج، يدخل بروحٍ جديدة، روح لا تعرف الظلم، لا تعرف إلا الحب والعدل، يصطف المتظاهرون عقد ماسي يزين الوطن.

يتصل بخطيبته، يخبرها بأن كل شيء بخير، تقول له: لا أعرف كيف تستطيع أن تحادثني في هذا الجو. يقول لها: لم نأتِ هنا لنموت، بل لنعيش.

تنحى الرئيس، طاف الميدان محتضناً كل من يقابله، رأي وجه صديقه في كل الوجوه، رأي وجه حبيبته مرسوماً بألوان الطيف في السماء، بكي، تمناها معه الآن، يسيران بين حدائق السماء، يطوفان مصر، يجلسان أسفل شجرة في ريفها، يصعدان سلم أحد بناياتها، يسرقان قبلةً، يفران عند سماع صوت حارس البناية، يتضاحكان بصوتٍ عالٍ، يمسك يدها ويعبرا بحر الخوف، والظلم.

لن نفترق يا حبيبتي بعد الآن، الثورة رياحٌ قوية، تغير القلوب والعقول. يرى دموعها وهي تختفي من أمامه، سنفترق يا حبيبي، فعلنا ما بوسعنا، الله لا يريدنا أن نكون سوياً، لقد حاولنا ستة أعوام، كلما أطلقنا طائراً للحب، تصيبه رصاصات القناصة، فيسقط ليبني بيننا جداراً لا يمكن إزالته.

يبكي، يصرخ، تختفي صرخاته بين أصوات الشعب الفرحة، لما رحلتي يا حبيبتي، الثورة نجحت، باستطاعتنا أن نفعل كل شيء، فلتقويني، لما لا تنطقين؟!

يتحول طيفها لتمثالٍ بلا ملامح يبكي، دموعه تمزقه، معلقٌ على جرفٍ عالٍ، يوشك أن يسقط على أسنة الأحجار المدببة، فتحيطه أرواح الشهداء، تحمله على بساطٍ من نورٍ، تنثر حوله الورود، وتضع على وجهه ابتسامة لا تُمحى.

يعود لعمله، يرفع رأسه عالياً، الثورة شعاع نوراني يضيء الشوارع والأبنية، يضع بالقلوب تراب الوطن المعطر بماء النيل، سماء الوطن مختلفة، تراب الوطن مختلف، شعب الوطن ليس نفس الشعب، تحية عسكرية للشهداء، الثورة على الطريق.

 نشبت الخلافات بينه وبين خطيبته، لا تتذوق زهرته، ولا يرى زهرتها بالمرة، الثورة ضلت الطريق، قُيدت وأُلقى بها في البحر المالح، يحاول أن يمنحها نفساً يوقظها، يعود للميدان، الأعداد قليلة، الشرطة تضرب بضراوة، الجيش يقتل نبات الوطن، يلقي بجثته للذئاب، أحاطه جنود الجيش، انهالوا عليه ضرباً، اختفى الضوء بين مسامات الميدان. اقتحم الميدان إنسانٌ آلي عملاق، يرتدي الزي العسكري، معلقٌ على كتفه نسراً وصورةً للرئيس المخلوع، الدخان يرسم صورة صديقه، يهرول نحوه، يهتز جسده بعنف، يضغط على أسنانه، كل شيء من حوله يُدهن بالسواد، أشخاص كثيرة تهرول حوله، يسمع همهمات آتية من جوف كهوف قلبه، ترتفع فجأة: يسقط يسقط حكم العسكر. يعود من بيت خطيبته غاضباً، يدخل غرفته، يطوح دبلتها في الركن المظلم، شعر بالانعتاق والحرية، ظل يسير على نباتات الوجع المشوكة ظنناً منه بأنه سيعبر لأرض الحب، لكنه وجد نفسه يعبر لأرض الضياع، الأتربة العالقة على الجدران رسمت صورة حبيبته مبتسمة، تحامل على نفسه، جلب قطعة قماش وقام بمسح الجدران. يفتح عينيه يرى كثير من الشباب ملقى بجواره، زهور متفتحة تغطي وجوههم الدماء، يشعر بالوهن، قوته ترحل عنه للسماء، أسفل قلبه بعدة سنتيمترات ثقباً من أثر رصاصة لم يشعر بها وهي تنغرز بجسده، كل ما حوله ينهار..السماء، الأبنية، وجه حبيبته. الدخان تتريٌ موتور يقضي على النَفَس الضعيف المتبقي داخله.

يصرخ طبيبٌ شاب: لابد أن يُنقل للمستشفى.

يحمله الشباب ويضعونه بعربة الإسعاف التي تشق طريقها لمستشفى القصر العيني، ويغيب عن الوعي مرة أخرى.

الظلام يحيطه، يبحث عن شمسه الآفلة، وعن قمره الآبق، يقلب بصره في السماء، لقد غادرتها نجومها، يرى وجه حبيبته كوكباً مظلماً يدور بلا مدارٍ ثابت، يحاول أن يجد كوكباً آخر، فيعجبه واحداً مزين بالخضرة يظن أنه تابعه ومنقذه، يحلق عالياً ويصل إليه، كوكبٌ بلا هواءٍ ولا ماءٍ، ظلمة مخضرة، وصحاري تُنبت صحاري، يره جسده ملقى على حافة صخرة قبيحة المنظر، يقف أمام جثته وعلامات الدهشة عصافير تنقر وجهه، يصرخ لكن صرخته تضيع في الفراغ.

يستيقظ بعد أن تم استخراج الرصاصة من جسده، يرى حوله أجساد المصابين ملقاة على بلاط المستشفى، يحاول أن يتحرك لكنه يجد يداه مكبلة إلى عمود السرير، يحاول أن يتخلص من قيوده فلا يجني غير الألم الذي يسري في كل جزء بجسده، يسمع ضجيجاً يأتي عبر الممر الذي يربط غرف المستشفى ببعضها، لا يتبين الصوت، لكنه يقترب، يدخل رجلٌ في الأربعينيات يصرخ في الغرفة: أنتم تحرقون البلد، منكم لله، البلد تضيع بسببكم.

صرخة مكتومة تسري بجسده، شعبٌ يأكل ثورته، يلقي ما تبقى منها للوحوش الضارية، عالمه مكسو بالسواد، روحه تتحرر من قفصٍ صغير لتخرج لقفص أكبر، وتضيع روحه في أسطورة سرمدية لا تنتهي، أقفاص من داخل أقفاص، وروح مكبلة تنغرز السلاسل بقلبها.

يهمس في أذنه الطبيب الشاب: سأفك قيدك، عليك أن تخرج مسرعاً، فلتنتبه لنفسك يا بطل.

يتحرك بصعوبة بالغة، ينظر حوله يميناً ويساراً مترقباً، كل شيءٍ ضاع، لم يتبقى معه سوى الألم والجراح، طائر الحزن يحلق حوله، يمطره بحجارة من سجيل، لقد ضاعت الثورة، تباً لها من ثورة، وصل البيت، أخذته أمه بين ذراعيها، تقبله في كل أجزاء وجهه، يبكي بين ذراعيها، تصرخ مشاعره كغزالة صغيرة أحاطتها الذئاب ونهشوا جسدها.

يجلس على سريره، يرفض الطعام والكلام، تمر الأيام عليه بغرفته لا أنيس له سوى وحش الاكتئاب، تحاول أمه أن تخرجه من حالته تلك، لكنه لا يستجيب، يكتب على الحائط بقلمه المفضل: الثورة الملعونة.

يشعر بالاختناق، يفتح نافذة الغرفة، يرى فتاة مشمسة، ابتسامتها قمرٌ يبعث الدفء بروحه المتعبة، تلوح له: الحمد لله على سلامتك، كلنا قلقون عليك.

يُبنى بينه وبينها جسراً قلبياً، يأخذ بروحه لحدائق السماء السعيدة، يعبر عليه لأرض الخلاص.

  

لن يضيع الوطن،

فالنور أتى،

لن يعود،

لقد تحطمت تماثيل الخوف،

ونزع من القلب نبتة اليأس.

 

 لا تبكِ أيها الفارس،

سيأتي المدد،

عابراً بحار الثورة،

يحمل زهوراً باسمة،

يحمل رسائل كتبت بحبر العزيمة.

 

 قُطعتْ ذراعي في الميدان،

فاستندت على عكاز الوطن،

فنبتت لي يدٌ نورانية،

تسقي الزهرة،

وتعطي الشمس بريق الحلم. 

 

أحمد سعيد

13|11|2012


Viewing all articles
Browse latest Browse all 11

Latest Images

Trending Articles





Latest Images